الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عند الدخول في مشروع او عمل ذو احترافية عالية، دائما ما نجد ان الأطراف العاملة على المشروع، سواء مدير المشروع او العاملين فيه او المستفيد منه، يضعون إطار زمني لإنجاز الأعمال بشكل متسلسل ومنظم. في حال لم يتم وضع الإطار الزمني، فمن الطبيعي ان الاعمال لن تنتهي ابدا ولن ترى النور ولن يتحقق الهدف من المشروع. كذلك في حين الانتهاء من هذا المشروع، غالبا ما تكون الفائدة منه محددة بزمن معين، قد يطول او يقصر، ولكن كل عمل يحتاج الى التطوير، والى التغيير أحيانا إذا تطلب الأمر بعد مرور مدة معينة من الزمن. هذا المثال هو فقط لطرح مفهوم يعتبر حديث مرتبط عدم بفكرة ان جميع ما يحيط بنا من أفكار وعادات وأنماط اقتصادية وقانونية وتقنية قابلة للتغير والتطور، وهذا ما يطلق “تسارع الزمن”. تسارع الزمن هي نظرية حديثة مرتبطة بالقانون، والسياسة والاقتصاد والمجتمع.
صاحب هذه النظرية هو عالم السياسة والاجتماع هارتموت روزا. تعود فكرة هذه النظرية إلى أن المجتمعات متغيرة وليست ثابتة، وفي سياق المجتمع يوجد الاقتصاد، والسياسة، والقانون والتكنلوجيا. وهنا تظهر لنا أهمية هذه النظرية من خلال ان التغيرات التي تمر على المجتمع لا تسير بنفس سرعة التغيرات التقنية والاقتصادية والقانونية. مثلا، التسارع التكنولوجي هو أكثر مظاهر التغير وضوحا وإثارة للجدل في وقتنا الحاضر. منذ الثورة الصناعية كان تسارع التكنولوجيا مذهلاً. ففي حين كانت عربة البريد تسافر بسرعة 5.5 ميل في الساعة في عام 1750، فإن شبكات السكك الحديدية الواسعة النطاق تربط بين البلدان اليوم، ويمكن عبور الكرة الأرضية جواً بسرعة متوسطة تبلغ 600 ميل في الساعة. كذلك، كميات البضائع المنقولة قبل الثورة الصناعية أصبحت ضئيلة مقارنة بكميات البضائع التي يتم شحنها الآن، مثلا، كمية البضائع التي ينقلها الأسطول الفينيسي، الذي هيمن على تجارة البحر الأبيض المتوسط لقرون، لا يمكنها تعبئة سفينة شحن واحدة في يومنا هذا. في حين ان التغيرات الاجتماعية، نجدها تسير على نسق أبطأ من التغيرات الاقتصادية والتكنولوجيا. ا التسارع الاجتماعي قد يكون أبطأ اذا كان مرتبطا بالعادات والأفكار، واسرع لو كان مرتبط بالاقتصاد و التكنولوجيا. لو كان هناك جمود اقتصادي وتقني فهذا يعني ان سكان المدنية سيتطورون، ولكن التطور ليس نتيجة تغيرات جذرية في بنية الحياة، وإنما نتيجة تراكم الخبرات، وبالتالي المهن لن تتطور والتركيبة الاجتماعية لن تتغير والاقتصاد لن يزدهر. في حين انه حاليا لم تعد الوظائف والمهن تُورث من جيل إلى جيل (كما هو الحال في المجتمعات التقليدية)، ولا يتم اختيارها مدى الحياة (وهو ما كان يحدث في كثير من الأحيان في قديما. يبقى السؤال عن علاقة نظرية التسارع في القانون ومدى ارتباطها بالاقتصاد والتكنلوجيا.
التسارع الاقتصادي والتكنولوجي، وتسارع التغيير الاجتماعي، وتسارع وتيرة الحياة كلها مرتبطة بعمليات تجري داخل الهياكل السياسية والاقتصادية والتي يحكمها وينظمها الإطار القانوني. فقد سار صعود الدولة في أوروبا جنباً إلى جنب مع صعود نظام قانوني يجمع بين عنصرين متعارضين.
العنصر الأول هو التغيير والتطور، حيث كان النظام ديناميكياً بطبيعته، إلا أنه لم تكن صلاحية القانون مستمدة (في المقام الأول) من مفاهيم الوحي الإلهي، أو الطبيعة، أو العرف، بل كانت مستمدة بدلاً من ذلك من إرادة الحاكم (الدولة). وبعبارة أخرى، لم يكن القانون يُنظَر إليه باعتباره أمراً مفروغاً منه، بل باعتباره شيئاً صنعته الأجهزة السياسية للدولة ولا يمكن تغييره، بل ان القانون قابل للتغيير والتطوير. وهذا الإطار الذي يحكم تطور القوانين يمتاز بمنح مرونة اكثر و قدرة على التكيف من التغيرات الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية والتقنية، حيث كان بوسع الدولة أن تستجيب لتسارع العمليات الاجتماعية والتكنولوجيا من خلال تبني قوانين جديدة.
أما العنصر الثاني والمتضاد مع العنصر الأول، هو الثبات والجمود أحيانا. ارتبط فكرة القانون بفكرة انه ثابت وغير مرن بطبيعته، بمعنى أنه سعى إلى صنع توقعات واضحة من تطبيق القانون وهذا نابع من ان وجود الدولة القانونية مرتبط بمفهوم الثقة، ومن أوجه الثقة هو وجود قانون مطبق ويساعد الخاضعين له للتنبؤ بنتيجة تطبيقه نسبيا. كان هذا بدوره أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت في صعود الرأسمالية من خلال خلق بيئة قانونية يمكن التنبؤ بها حيث يمكن للشركات الفردية الدخول في عقود وتحمل المخاطر لتحقيق الربح والبقاء. وكما أشارت دراسات ماكس فيبر حول العلاقة بين الرأسمالية والقانون الحديث، فإن هذا يتطلب أيضًا نظامًا سياسيًا حيث يتم التعامل مع القانون كنظام فرعي مستقل نسبيًا، يحميه مهنة قانونية طورت شعورًا قويًا بالاستقلال و الثقة بالدولة.
ولكن، يصعب على تسارع تطور القوانين ان يواكب التسارع الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي أحيانا وهذا يعود لعدة أسباب. أحد هذه الأسباب الحاجة إلى الالتزام بالقواعد والمنطق القانوني المحدد سلفاً وعدم زعزعة الاستقرار القانوني بكثرة التغييرات التشريعية، ولكن هذه الحقيقة تأتي مع خطر أن يصبح القانون ببساطة عتيقاً في مواجهة البيئات المتغيرة بسرعة. مثلا، في مجال الأمن السيبراني مرتبط بالتطور التكنولوجي، ويعتبر من أكثر القطاعات الحديثة التي يعاني فيها من صعوبة وضع قوانين واضحة تنظم الفضاء السيبراني، كما ان القوانين الحالية ليست قادرة للسيطرة عليه بالشكل الذي تهدف إليه الدول. والسبب الثاني الذي قد يشكل تحدي هو ان القوانين محكومة بهيكلة تشريعية وسياسية ومؤسساتية ويتغلغل فيها مفهوم البيروقراطية والإجراءات مما تجعل تسارع التغيير في القوانين ابطأ بكثير من التغيرات الاقتصادية والتكنولوجيا وتغيرات المجتمع. وعليه، فإن بناء أي نظام قانوني وتشريعي يجب ان يخضع لدراسة عميقة ليست فقط حول ما هو الوضع الراهن، وإنما مدى توافق النـظام من تسارع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال